الأربعاء، 30 يونيو 2021

الحكمة والسفاهة

ديمومة الحال يرادفها المحال، وتغيير الحال حاصلٌ لا محال، وحياة ابن آدم لها وجهان: وجه يعايش به ما يحب، كالشعور بالفرح بعد الحزن، والغنى بعد الفقر، والعافية بعد المرض، والأمن بعد الخوف.. والآخر عكس ذلك، الذي به تموت الأحلام، كالشعور بالإحباط بعد الشغف، واليأس بعد الأمل، والذل بعد العزة.. وهذا الشعور لا ينجو من جحيمه إلا من زادت حكمته، وقَلَّت سفاهته.

الحكمة والسفاهة صفتان متناقضتان؛ فمَن زادت سفاهته قَلَّت حكمته، ومَن زادت حكمته قَلَّت سفاهته. وهاتان الصفتان توجدان في كل إنسان، كبير أو صغير، رجل أو امرأة، غني أو فقير... إلخ، ولكن نسبة الحكمة عند كبار السن أعلى من نسبتها عند صغار السن. وهناك سبب رئيسي وراء ذلك، هو أن معظمنا لا يعرف حقيقة هذه الدنيا إلا في وقت متأخر من العمر.

مما أراه، الحكمة لها علامتان رئيسيتان، تستقران بهما نفس الإنسان: الأولى هي أن الرزق القليل أفضل من لا شيء. والثانية هي أن الكمال في الدنيا أمرٌ مستحيل.

وأما السفاهة فهي عكس الحكمة تمامًا، ولها أيضًا علامتان رئيسيتان، تضيعان بها النفس: الأولى هي أن الرزق الكثير لا يكفي، ويجب أن يكون أكثر. والثانية هي أن الكمال في الدنيا هدفٌ ويجب تحقيقه.

بالحكمة يستطيع الشخص أن يتصوَّر مستقبل ما يحدث حوله، ويكون هذا التصور باستحضار تجارب الأسلاف؛ ليطبق بقدر المستطاع نجاحاتهم، ويتجنب أخطاءهم، ويفرق بين المهم والأهم.

والحكمة صفة يهبها الله لمَن يشاء من عباده، وقد قال تعالى {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب} سورة البقرة الآية 269. لذلك لن تجد الحكمة في كاذب ولا سارق ولا متكبر ولا خائن.. بالمختصر: الحكمة توجد فقط فيمَن تجتمع فيه مكارم الأخلاق.

وأما السفاهة فهي التي تجعل نظرة المرء محبطة ودونية ومادية.. فلن تجد سفيهًا يقوم باستحضار الماضي بصورة صحيحة؛ ليرسم بعض الأهداف لمستقبله ومستقبل الأجيال القادمة، بل دائمًا تجد السفيه يدور بتفكيره في حلقة واحدة، هي حلقة الفشل، وبها يقتل طموح مَن حوله. ولن تجد سفيهًا يتعلم من أخطائه، بل دائمًا هو أول من يرمي ما بيده من رزق وخير ونعمة؛ لكي يخفف على نفسه مطاردة سراب أحلامه الضائعة التي قد يكون هلاكه وهلاك من معه بالوصول إليها.

وهنا أود أن أوضح للجميع أن المبالغة غالبًا ما تكون أساس السفاهة، وأواسط الأمور دائمًا ما تكون من الحكمة. فالمبالغة بالزهد في الدنيا سفاهة، والمبالغة بحب الدنيا سفاهة.. وأما التوسط في الزهد وحب الدنيا فهو من الحكمة؛ لذلك يجب علينا جميعًا أن نعمل ونسعى في هذه الدنيا لطاعة الله أولاً، ومن ثم لتحقيق أهدافنا وطموحاتنا بقدر استطاعتنا، وبدون مبالغة.

وأختم مقالتي بحكمة جميلة، تختصر لنا الكثير، وتُنسب لسيدنا علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- هي: "اعمل لآخرتك كأنك ستموت غدًا، واعمل لدنياك كأنك ستعيش أبدًا".

بقلم 
حمد خالد العرق - الرياض

الأربعاء، 16 يونيو 2021

الآفاق الاقتصادية للإبداع

هل يدرك الفنانون العرب الدور الذي يمكن أن يلعبوه في نمو اقتصاد بلدانهم؟ محدودية آفاق التفكير مأساة. حين يحصر منتج المسلسل طاقاته في نسبة مشاهدة رمضانية، فتلك مأساة. حين يضيّق الموسيقيّ الخناق على الطموح الإبداعي، كرواج ألبوم، فتلك مأساة. وحين وحين... فالاستنتاج هو أن الطاقات الخلاّقة غائبة، فالمبدعون لا يرضون ذلك الإنتاج مظهر إشعاع لفنهم.

هل تذكر الأرقام التي جعلت فرقة «البيتلز»، أو «الخنافس» قيمة مضافة إلى الاقتصاد البريطاني؟ بذلك نالوا تكريم الملكة. في أقل من عقد (1962-69) بلغت مبيعاتهم ستمئة مليون أسطوانة. أهمّ من ذلك بكثير أن 37 ألبوماً لهم حازت مرتبة «الألبوم الأول» عالميّاً. «والت ديزني» يطرح مبحثاً هو في حدّ ذاته، في ظن القلم، محور جديد لا سابقة له في تاريخ الفن: أن يرحل المبدع ويظل إنتاج إبداعه مستمرّاً، لأن الإبداع صار مؤسسة تنتج الأعمال، كما أضحى منشأة اقتصادية: «مدينة ديزني». هل كان ديزني حين خطا الخطوة الأولى على طريق الألف ميل في الرسوم المتحركة يتخيّل أن حلم أطفال العالم سيصبح زيارة المدينة التي تحمل اسمه؟

دع خيالك يشطح، في خيال لم يعد يبدو علميّاً خارج حدود المتصوّر. فكرة استمرار الإبداع بعد رحيل المبدع لن تكون في المستقبل أمراً خارقاً للطبيعة. الذكاء الاصطناعي قد يأتي بما يلوح اليوم مذهلاً. «ديب بلو»، الحاسوب الذي تغلب على بطل العالم في الشطرنج، كاسباروف، شحنوه ببرمجة فيها مباريات شطرنجية عالمية نجومية. حسناً، لنا أن نتخيّل ذكاء اصطناعياً موسيقياً يُبرمج بالمؤلفات الموسيقية الكاملة لموتزارت مثلاً، ويكلّف بتأليف كونشرتوهات، سيمفونيات، سوناتات جديدة لموتزارت لم يؤلفها فولفجانج آمادوس، أو بيتهوفن أو برليوز أو تشايكوفسكي. هذا الموضوع ظريف على ما يبدو، يفتح الشهيّة، نترك تفصيله لعمود آخر. خذ ذلك كعربون. لكن أطلق لخيالك العنان. سترى أنك حلّقت في آفاق لم تخطر على بال القلم.

عندما يحبس الفنان طائر إبداعه في قفص الإنتاج التلفزيوني الرمضاني، أو قنّ ألبوم غنائي، فإن الريش الذي سينمو لخياله سيكون ريش دجاج، لا ريش قوادم وخوافٍ لصقور وعقبان. سوف ينط ولا يحلّق، ولا يمكن أن تحلم أعماله بالارتقاء فوق أسوار الزمان.

لزوم ما يلزم: النتيجة الفكريّة: حين تحدّد إطاراً للإبداع، لا تنس البعد الرابع، البعد الزمني.





الكاتب

عبداللطيف الزبيدي
abuzzabaed@gmail.com


الأربعاء، 9 يونيو 2021

الوجه الآخر للرشاقة المؤسسية

طفا مؤخراً على سطح الممارسات الإدارية الرشيدة مصطلح «الرشاقة المؤسسية»، متقدماً على مفهوم «المرونة المؤسسية» الذي اعتدنا المناداة به.

يتناول البعض كلا المفهومين دون تفريق، بينما يميّز آخرون بينهما على اعتبار أن المرونة المؤسسية تتحقق عندما تنجح المؤسسة في التعامل مع التحديات الداخلية التي توقعتها حال حدوثها، أما الرشاقة فتمتد لتجبّ ذلك وتدل على قدرة المؤسسة على الاستجابة للمتغيرات في بيئة العمل الداخلية وكذلك الخارجية، خصوصاً تلك غير المتوقعة سواءً لبست حلّة التحديات أو حلّة الفرص.

للرشاقة اليوم أهمية بالغة تستحق أن توصف بالضرورة، وتحتاج إليها المؤسسة لكي تستمر في تحقيق النتائج الجيدة، والذهاب أبعد من ذلك وصولاً إلى الريادة.

على المؤسسة في سعيها نحو الرشاقة أن تتجنب ما يعرف بالرشاقة الناقصة، وتقع عادةً المؤسسات في هذا الفخ عندما تصب جلّ تركيزها على تحقيق الرشاقة في العمليات أو الخدمات أو إدارات بذاتها، وتغضّ الطرف عن باقي أجزاء المؤسسة، مدفوعةً بالرغبة في اختصار الزمن وتقليل التكاليف. تغتبط المؤسسة للوهلة الأولى فتظن أنها أصبحت رشيقة، وما هي إلّا فترة وجيزة حتى تجد عصياً كثيرة قد وضعت في عجلاتها فتكبّل حركتها، وتكبح تقدمها. هذا لأن المؤسسة هي كيان واحد لا يقبل التقسيم، فإن لم تكن المؤسسة رشيقة في التخطيط فلن تكون كذلك في تقديم الخدمات، وإن لم تزرع الرشاقة في موظفيها فلن تصل إلى العمليات الرشيقة، وقس على ذلك.

تختبر المؤسسات الرشيقة في بداية طريقها تضارباً بين روح الرشاقة التي تتوق إلى المرونة والحرية والابتعاد عن الضوابط الصارمة والمراقبة اللصيقة، وبين متطلبات إدارة ومتابعة الأداء المؤسسي والفردي، والمحكومة بأهداف ومؤشرات ومقاييس دقيقة مشبعة بالانضباط والمتابعة. وتكون النتيجة أن تتراخى المؤسسة في متابعة الأداء ما ينعكس سلباً على نتائجها وتحقيق أهدافها. من الضروري أن تدرك المؤسسات أن الرشاقة لا تتعارض مع الالتزام والمتابعة، لا بل أنها بحاجة إلى قدر أكبر من الانضباط الذاتي والتمسك بالقياس والمقارنة.

لا يمكننا كشف مخاطر الطريق إلى الرشاقة المؤسسية دون أن نعرّج على القادة والمديرين ودورهم الأساسي في الوصول إلى الرشاقة المطلوبة، فكم من مؤسسة همّت لتصبح رشيقة، ولكنها لم توفّق نتيجة ثقافة الإدارة التقليدية المنتشرة فيها، وعدم اقتناع المديرين بشكل كامل بهذا المسير، فلا نسمع لجهود التوعية والتدريب والتمكين صدىً، وتبني المؤسسة وتبذل في ذلك من مواردها الثمينة، ولكنها تكتشف أن بناءها واهن لأن أساسها هش وقواعدها ضعيفة.

تفلح المؤسسات في الوصول إلى الريادة عندما تعي جيداً الوجه الآخر للرشاقة، فتتجنب شعابها وأزقتها، وتحرص على السير في دربها الواسع الرحب.

د. راسل قاسم 


معضلة الشخص المعطاء والراكب المجاني

من المحمود دائماً البذل والعطاء ومشاركة المعارف بحيث يستفيد منها أكبر قدر من الناس. عندما تتوفر رغبة قوية في العطاء لدى المهنيين، نراها تؤثر...