كنت أود الكتابة عن القهوة منذ زمن مضى، خصوصاً بعد أن صرم زميلي الدكتور عبدالغفور روزي وقتاً من أوقاته البحثية والاكاديمية وهو يبحث في تاريخ القهوة في الشرق والغرب، ثم نشر بحثاً جميلاً موثقاً. وكنت أريد أن أقول عن القهوة ما يعد من باب المداخلة مع مقال زميلي الدكتور عبدالغفور. فتاريخ القهوة موغل في القدم. على أن عمرها في جزيرة العرب لا يتعدى حوالي خمسة قرون.
ومما شجعني على كتابة هذا الحديث ما قرأته مؤخراً أن بعض الجامعات الأمريكية والبرازيلية أقرت مقرراً أو أكثر في تاريخ القهوة. وكنت في أيام طلب العلم اطلعت على كتاب مهم عنوانه: القهوة والمقاهي: أصل المشروب الاجتماعي في الشرق الأدنى في العصر الوسيط beverage in the medieval near east coffee and coffee house: the origins of a social. وهو من تأليف رالف هاتوكس Ralph hattox ونشرته في سنة 1985جامعة واشنطن في مدينة سياتل الواقعة في الشمال الغربي للولايات المتحدة.
يرتبط اسم جمال الدين أبوعبدالله محمد بن سعيد الذبحاني بتاريخ القهوة في الجزيرة العربية. عاش الشيخ الذبحاني في منتصف القرن التاسع الهجري (منتصف القرن الخامس عشر الميلادي) وهو أول من أدخل هذا المشروب إلى الجزيرة العربية. وبالتالي يمكن أن نقول مطمئنين أن القهوة بكل أشكالها لم تكن معروفة لأهل الجزيرة العربية قبل هذا التاريخ. كان الشيخ الذبحاني يتولى رئاسة الإفتاء في عدن، تعرض عليه الفتاوى التي تتعرض للنوازل يجيز ما يراه، وينقض أو يصحح ما يحتاج إلى تصحيح. وكان أيام عمله ذاك على علاقة بالحبشة، وربما أنه تعاطى التجارة مع تجار الحبشة. لذا نجده يسافر إلى هناك، وتعرف على مشروب القهوة، وارتاحت لها نفسه. وبعد عودته أصيب بمرض جعله يتذكر مشروب القهوة، فأرسل من جلبها له. فطفق يصنعها كما كان يصنعها الأحباش، وسقاها لخاصته وأهل بيته وعرفوا مقدار أثرها على الجسم الواهن والذهن المكدود.
لقد بقيت القهوة محدودة الانتشار في اليمن، ولقيت معارضة من مشايخها، وعدوه مشروباً جديداً ومبتدعاً لا يتناسب مع مروءة الرجل. أما الشيخ الذبحاني فقد انتهى أن أصبح من المتصوفة، وترك القضاء والإفتاء، ولازم شرب القهوة، وهذا سبب آخر زاد من عدد معارضيها. لكن القهوة أصبحت من لوازم الصوفية، لأنها تساعدهم على السهر وقيام الليل. وبعد مدة لا تتجاوز العقد بدأ بعض المزارعين في زراعة شجرة القهوة بسبب انتشار شربها بين الطبقة العليا في اليمن، ثم قلدتهم العامة خصوصاً طلبة العلم الذين يحتاجونها لمساعدتهم على السهر.
ومن اليمن انتقلت القهوة إلى مكة، وعارضها رجال الدين معارضة شديدة، وأصدر بعضهم الفتاوى التي تحرمها، وعدوها من جنس المسكرات والمثبطات. وقالوا إنها تسبب العلل في الأبدان والضعف في العقول. وانقسم الناس بسببها إلى قسمين، وكثرت الفتن والمواجهات خصوصاً عندما أيد بعض الفقهاء فريق المحللين للقهوة، واستعان بعض الفقهاء بالسلطة السياسية، وطال النزاع طويلاً، ولا داعي لاستعراض ذلك النزاع في هذا الحديث. لكن المعارضين اخترعوا حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من شرب القهوة يحشر يوم القيامة ووجه أسود من أسافل أوانيها.
ولعل شهرة القهوة وانتشارها في بقية الأمصار الإسلامية حدث عندما ظهرت القهوة لأول مرة في مصر في مطلع القرن العاشر الهجري. لقد جلبها اليمانيون إلى رواقهم في الجامع الأزهر، وكان طلاب اليمن وما جاورهم في الرواق اليمني يسهرون للدراسة وترديد الأذكار وينشدون المدائح النبوية، ويستعينون على مغالبة النعاس بشرب القهوة. ولقيت القهوة معارضة علماء مصر، وأصدر بعضهم فتاوى تحرمها، ومع هذا بقيت معارضة مصر اخف وطأة من معارضة الحجاز.
وكانت العلاقة المتنوعة بين الحجاز واليمن ومصر قوية ومتشابكة، ونلمح أن مشروب القهوة انتشر في عموم اليمن، لكنه في مكة يصادف عاماً تحرم فيه القهوة، وآخر تحل فيه، والشيء نفسه يقال عن مصر. وحدث في بعض الأعوام التي سُمح بمشروب القهوة أن قُدمت لزوار البيت العتيق جنباً على جنب مع ماء زمزم، وحدث في الأعوام التي حرمت فيها القهوة أن أقيم الحد الشرعي على شاربها وبائعها، فقد عزر أولئك وطوف بهم في شوارع مكة، وكبس العسس على المقاهي وبيوت القهوة وخربت وكبس على المرتادين وأخرجوا وقد شدوا وثاقهم بالحبال والحديد، ثم يتم جلدهم في الميادين العامة ويسجنون المدد المقررة.
ومن مصر والحجاز انتقلت القهوة إلى القسطنطينية ثم البندقية في القرن السابع عشر الميلادي. ثم إلى سائر أوروبا. وافتتح أول مقهى في انجلترا سنة 1652م. ولقيت القهوة معارضة في انجلترا وألمانيا ولكنها معارضة يسيرة.
ارتبطت القهوة بالصوفية، حيث اتخذها أغلبهم بديل المشروبات التي قد يدخلها التخمر، وارتبطت بشرب التنباك، لهذا نظر إليها أهل نجد وبقية عموم الجزيرة نظرة متوجسة. وصدرت فتاوى في نجد تحرم مشروب القهوة. ومنع الناس من جلبها من الحجاز عند عودتهم من الحج. وتأخر وصول القهوة إلى نجد، وعرفت على نطاق ضيق جداً في نهاية القرن الثاني عشر الهجري. ولم تنتشر وينسى الناس الفتاوى التي تحرمها إلا مع اتصال أهل نجد بأهل مصر وأهل الشام أيام الدولة السعودية الأولى. ومع هذا بقيت القهوة ممنوعة من دخول مساجد نجد إلى منتصف القرن الثالث عشر الهجري. ثم انتقلت القهوة من النقيض إلى النقيض فأصبحت تقدم في مساجد نجد وفي شهر رمضان المبارك. وسبحان مغير الأحوال.
والآن القهوة تعيش عصرها الذهبي حيث تنتشر بيوت القهوة في كل مكان. وتفنن الناس في صنعها. وزادت البرازيل وغيرها من الدول من زراعتها. وهي تلعب دوراً اجتماعياً كبيراً. وهي لعبت أدواراً سياسية خطيرة منذ القرن السابع عشر إلى القرن العشرين الميلاديين. حدث ذلك في المشرق العربي وأوروبا. ولعل لي عودة للحديث عن تلك الأدوار.
جريدة الرياض
بقلم
د. عبدالله بن ابراهيم العسكر
http://www.alriyadh.com/article384015.html