سويق السعودية كدولة في هذا العالم المتغيّر يواجه تحديات كبرى لعل أبرزها يتمثل في احتدام المنافسة العالمية على حصص التجارة والسياحة والاستثمار واللوجيستيات، وكذلك عمق تجربة الدول الأخرى في السوق العالمي، وعراقة حضورها التاريخي في أذهان الناس، وأيضاً المعايير المنحازة التي توضع أحياناً بشكل يخدم مصلحة دول معينة - أو تكتلات دولية - على حساب دول أخرى. ما يوحد بين كل هذه التحديات هو كونها خارجية من حيث المصدر وموحّدة من حيث النوع، وتواجهها كل دولة تسعى لتسويق نفسها سواءً كانت البرازيل أو أستراليا أو ماليزيا. غير أن لكل دولة من هذه الدولة تحديات داخلية ذات طبيعة تختلف من دولة لأخرى. فالصين تعاني عند تسويق نفسها من سمعة حزبها الشيوعي الحاكم كسلطة قمعية ومن ملفات حقوق الإنسان المتراكمة فيها، وبريطانيا وفرنسا وألمانيا تعاني من تاريخها الاستعماري الذي ما زالت جراحه بادية على أجساد دول عديدة في المنطقة؛ مما يجعل أي بادرة تسويقية من قبلهم مشوبة بالتوجس والكراهية المسبقة، والولايات المتحدة طالما عانت عند تسويق نفسها من سياساتها الدولية المنحازة وسمعتها كشرطيّ عالمي متقلب المصالح. فلا الحزب الشيوعي الحاكم في الصين مستعد للتنازل عن سلطته من أجل صورة تسويقية أفضل، ولا بريطانيا قادرة على محو تاريخها الاستعماري الطويل، بينما تحاول الولايات المتحدة الأميركية توظيف آلتها الثقافية الكبرى (إعلاماً ومجتمعاً وهجرة) للتقليل من أثر سياساتها الخارجية وتسويق نفسها بصورة أفضل.
أما في السعودية، فإن أبرز التحديات الداخلية التي تعيق عملية تسويقها دولياً هو عدم حضور مفهوم تسويق الدولة بشكل ملحّ في الإستراتيجية الاقتصادية؛ مما أدى إلى تضاؤل فرص نمو هذه الثقافة بشكل طبيعي حتى أصبح طرحها الآن يعدّ منفراً ومثيراً للريبة. فتسويق الدولة، بغض النظر عن جوهره العلميّ وضرورته الواقعية، يعكس لدى كثيرين حالة مبتذلة يربأ البعض بدولة مثل السعودية أن تنخرط فيها. وكذلك فهي حالة مثيرة للريبة خشية أن يؤدي ذلك إلى تقديم تنازلات ثقافية تتعارض مع السائد من الأعراف والتقاليد. وبطبيعة الحال، فإن تسويق الدولة لا يعني بالضرورة عرضها للبيع! ولا يعني أيضاً تقديم تنازلات للعميل المستهدف. الصورة المهزوزة التي تصاحب مفهوم التسويق باعتباره (دعاية) هي صورة سطحية يتم استنباطها بشكل مباشر من تسويق المنتجات والخدمات ثم يتم إسقاطها على تسويق الدول الذي هو مفهوم مختلف في سياقه وطبيعته. الاعتراض المبدئي على تسويق الدولة ينبع غالباً من اعتبارات نرجسية أو قومية تدخل جميعها في سياق إساءة فهم (تسويق الدولة)؛ حين لا تدرك أن هذا المفهوم ليس إلا تتويجاً لمقدّرات الدولة ومكتسباتها الوطنية، وتمكيناً لها من من أن تبوأ مقعدها العالمي المستحقّ. إضافة إلى ذلك، فهو ضرورة اقتصادية يفرضها الاقتصاد العولميّ الآن على الجميع، وإن بدت حاجة الدول ذات الاقتصاد الريعيّ له غير ملحّة، فإنها تزداد إلحاحاً بشكل مضطرد لا يغفل عنه سوى ساهٍ عن الساحة الدولية أو مفرّط في مستقبل وطنه.
وفي السعودية، يمكن إحصاء بضع جهات حكومية اجتهدت في مضمار تسويق الدولة مثل الهيئة العليا للاستثمار والهيئة العامة للسياحة والآثار، وكذلك وزارة الخارجية في المجال الدبلوماسي، وكل هذه الجهات تسعى لأهداف محددة وواضحة، وفي أغلب الأحيان مؤقتة أو مؤطرة بسقف معلوم، وفي جميع الأحيان تقيّد هذه الجهود قوانين وأنظمة واعتبارات سياسية لا حصر لها. وطالما اصطدمت الهيئة العليا للاستثمار بالترهل العام في البيئة البيروقراطية داخل السعودية مما اضطرها لقصر نشاطها على جلب رؤوس أموال ذات مواصفات معينة يمكن أن يخصص لها أنظمة استثنائية في نطاق محدود، ولطالما اصطدمت الهيئة العليا للسياحة والآثار بقيود إجرائية وأمنية وثقافية تعيق عملية استقطاب السائح الأجنبي أو الاستفادة من بعض المناطق الأثرية سياحياً. كذلك انخرطت وزارة الخارجية منذ أحداث سبتمبر في جهود دبلوماسية واسعة لنفي شبهة الإرهاب العالمي عن السعودية؛ فاصطدمت بخلايا إرهابية محلية من أبناء الوطن زادوا مهمتها صعوبة وتعقيداً. إذاً، كل جهة حكومية تناولت الجانب الذي يعنيها من تسويق الدولة ومارسته بطريقة لم تخل من القصور ولم تسلم من العوائق. لم يتم تسويق الدولة كإستراتيجية شاملة من قبل، ولم تنبر لهذه المهمة أي جهة حكومية بشكل مستقل، ولا يلام أي منها على ذلك بطبيعة الحال؛ حيث لا يوجد جهة حكومية تملك سلطة كافية للتحكم في جميع الجوانب المتعددة التي تسهم في تكوين صورة تسويقية للسعودية.
ولكن إذا افترضنا أن السعودية تمكنت من تجاوز كل العوائق المختلفة، وشرعت فعلياً في إستراتيجية تسويق شاملة يتحقق من خلالها حضور عالمي أقوى وفوائد اقتصادية ملموسة، فإنها ستصطدم أيضاً بمشكلات تتعلق بماهية الصورة التي يتعيّن على هذا الإستراتيجية التسويقية خلقها في ذهن العالم. فموقع السعودية على الخريطة الدولية يحمل إشكالات عدة من دورها الجوهري في أسواق الطاقة إلى موقعها الجيوسياسي كقوة إقليمية، بالإضافة إلى مكانتها المحورية كمركز ديني على مستويي الثقافة والجغرافيا. كل هذه الأبعاد تجعل من عملية تسويق السعودية مشروعاً معقداً، ليس لأن هذه الاعتبارات السابق ذكرها تتعارض مع القيمة التسويقية بالضرورة بل ربما لأنها تقترح محاور تسويقية أكثر تعقيداً مما يمكن أن تختزله صورة تسويقية موحّدة. فتسويق السعودية كمصدر طاقة العالم يعرضها لانتقادات بيئية ناهيك عن تعرضها للّوم - بسبب أو دون سبب - عند كل أزمة طاقة في العالم، وتسويقها كقوة جيوسياسية في الشرق الأوسط يفرض عليها التزامات إقليمية تتنافى مع الحياد الذي يفترض بالمراكز الاقتصادية، كما أن تسويقها كمركز إسلامي ومهوى أفئدة يطرح من المعادلة أربعة أخماس العالم من غير المسلمين. كيف يمكن للسعودية أن تسوّق نفسها كدولة تسويقاً يعكس كل هذه المقدرات الكبرى التي تمتلكها؟ إن محاولة تكريس كل هذه الأبعاد في صورة واحدة يخرج عادة بصورة معقدة غير قابلة للرسوخ في ذهن العالم بسهولة. ولعل المقالة القادمة تقترح رؤية مبدئية لتبسيط هذه الصورة وتجاوز العوائق المذكورة.
الكاتب : محمد حسن علوان
الوطن : 22/9/2011م
http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleID=7471#.TnqXB_OqjUE.facebook